بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ،
وبعد ،
هذه بعض مواقف أدب وتأدب الأنبياء والمرسلين في ردهم على رب العالمين :
قال الامام ابن القيم رحمه الله في بيان تادب الانبياء مع الله سبحانه وتعالى :
وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله ، وخطابهم وسؤالهم . كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به ؟
قال المسيح عليه السلام إن كنت قلته فقد علمته ولم يقل : لم أقله . وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب . ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره . فقال : تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه ، فقال ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه . ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها . فقال إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به - وهو محض التوحيد - فقال : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم . وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم . فقال : (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ). ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم . فقال : وأنت على كل شيء شهيد ثم قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام . أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم . وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك . فإذا عذبتهم - مع كونهم عبيدك - فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس العبيد ، وأعتاهم على سيدهم ، وأعصاهم له - لم تعذبهم . لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته . فلماذا يعذب أرحم الراحمين ، وأجود الأجودين ، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده ؟ لولا فرط عتوهم ، وإباؤهم عن طاعته ، وكمال استحقاقهم للعذاب .
وقد تقدم قوله : إنك أنت علام الغيوب أي هم عبادك . وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم . فإذا عذبتهم : عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه . فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه . فليس في هذا استعطاف لهم ، كما يظنه الجهال . ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة ، كما تظنه القدرية . وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله ، وكمال علمه بحالهم ، واستحقاقهم للعذاب .
ثم قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ولم يقل : الغفور الرحيم ، وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى . فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم ، والأمر بهم إلى النار . فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة . بل مقام براءة منهم . فلو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم . فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم . فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة ، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم .
والمعنى : إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم . ليست عن عجز عن الانتقام منهم ، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم ، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه . ولجهله بمقدار إساءته إليه . والكمال : هو مغفرة القادر العالم . وهو العزيز الحكيم . وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب .
وفي بعض الآثار حملة العرش أربعة : اثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على حلمك بعد علمك . واثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك . لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى . كقوله : والله عليم حليم وقوله : فإن الله كان عفوا قديرا .
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ولم يقل : وإذا أمرضني . حفظا للأدب مع الله .
فلا يُنسب المرض إلى الله عز وجل مع أنه هو الذي يُمرض ، فلا يجوز نسبة أي شرٍ إلى الكبير المتعال تأدباً .
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة فأردت أن أعيبها . ولم يقل : فأراد ربك أن أعيبها . وقال في الغلامين : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما .
وكذلك قول مؤمني الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ولم يقولوا : أراده بهم . ثم قالوا : أم أراد بهم ربهم رشدا .
وألطف من هذا قول موسى عليه السلام (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) ولم يقل : أطعمني وقواني .
وقول آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولم يقل : رب قدرت علي وقضيت علي .
وقول أيوب عليه السلام . (مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) . ولم يقل : فعافني واشفني أو ينسب الضر إلى ربه عز جل .
فكثيراً ما نسمع ألفاظاً تـُقال في حق الله تبارك وتعالى ، قمة في قلة الأدب :
كأن يقول :
ربِ يسر ولا تـُعسر ، فلا يجوز أن ننسب العسر إلى الله عزوجل ، مع أنهما جميعاً من الله سبحانه .
فلو خاطب أحدنا مسؤولاً أو حاكماً فهو يتأدب معه ، وإذا أراد أن يُعلمهُ أنه عمل خطئاً أو أخطأ بشيء ، فإنه يقول له ذلك بطريقة مؤدبة وبها تورية ، كأن يقول له : هذا جيد وممتاز ، ولكن لو عملته بهذه الطريقة يكون أكمل حُسناً وأفضل .
فربنا عز وجل أحقُّ أن نتأدب معه وأن نـُجلهُ ونعظمهُ ونوقرهُ ، سبحانه وتعالى عما يصفون .
هذا والله أعلى وأجل وأعلم .
الشيخ جميل لافي
20 / 7 / 2011َ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق